الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
أي تدوس الجماجم ونحن على ظهورها.ومعنى {فأجاءها} أي جاء بها تارة فعدي جاء بالباء وتارة بالهمزة. قال الزمخشري: إلاّ أن استعماله قد يغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء الإتراك، لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول: بلغته وأبلغنيه، ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلاّ في الإعطاء ولم يقل آتيت المكان وآتانيه فلان انتهى. أما قوله وقول غيره إن الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين ذلك عن لسان العرب، والإجاءة تدل على المطلق فتصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت: أقمت زيداً فإنه قد يكون مختاراً لذلك وقد يكون قد قسرته على القيام. وأما قوله الإتراك لا تقول إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز لك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياساً فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا: أجاء فيجيز ذلك، وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية، وأن أصله أتى وليس كذلك بل آتى مما بُني على أفعل وليس منقولاً من أتى بمعنى جاء، إذ لو كان منقولاً من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأول إذا عديته بالهمزة تقول: أتى المال زيداً، وآتى عمراً زيداً المال، فيختلف التركيب بالتعدية لأن زيداً عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني. وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس فدل على أنه ليس على ما قاله.وأيضاً فآتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى. وقوله: ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال: أتيت المكان كما تقول: جئت المكان. وقال الشاعر: ومن رأى النقل بالهمزة قياساً قال: أتانيه. وقرأ الجمهور {فأجاءها} أي ساقها. وقال الشاعر: وأما فتحه الجيم الأعمش وطلحة. وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم. قال ابن عطية وشبيل بن عزرة فاجأها من المفاجأة. وقال صاحب اللوامح شبيل بن عزرة: فاجأها. فقيل: هو من المفاجأة بوزن فاعلها فبدلت همزتها بألف تخفيف على غير قياس، ويحتمل أن تكون همزة بين بين غير مقلوبة. وروي عن مجاهد كقراءة حماد عن عاصم. وقرأ ابن كثير في رواية {المخاض} بكسر الميم يقال مخضت الحامل مخاضاً ومخاضاً وتمخض الولد في بطنها: و{إلى} تتعلق بفأجاءها، ومن قرأ فاجأها من المفاجأة فتتعلق بمحذوف أي مستندة أي في حال استنادها إلى النخلة، والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى عليه السلام كان بيت لحم، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس، ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فعمدته فيه وهو اليوم الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء، ومن زعم أنها ولدته بمصر قال: بكورة اهناس.قيل: ونخلة مريم قائمة إلى اليوم، والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها. وقيل: إن الله أنبت لها نخلة تعلقت بها. وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة يابس بال أصله مدوّد لا رأس له ولا ثمر ولا خضرة، وأل إما لتعريف الجنس أو الداخلة على الأسماء الغالبة كأن تلك الصحراء كان بها جذع نخلة معروف فإذا قيل {جذع النخلة} فهم منه ذلك دون غيره. وأرشدها تعالى إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولظهور تلك الآيات منها فتستقر نفسها وتقر عينها، فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه {يا ليتني مت قبل هذا} وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيغبنها ذلك، وهذا مباح وعلى هذا الحد تمنى عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين. وأما النهي عن ذلك فإنما هو لضر نزل بالبدن، وتقدم الخلاف من القراء في كسر الميم من مت وضمها في آل عمران، والنسي الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقة الطمث.وقرأ الجمهور بكسر النون وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح. وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وحفص بفتح النون. وقرأ محمد بن كعب القرظي: نسأ بكسر النون والهمز مكان الياء وهي قراءة نون الأعرابي. وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضاً نسأ بفتح النون والهمز وهو مصدر من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء، فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء.وقال ابن عطية: وقرأ بكر بن حبيب نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض والنفض. قال الفراء نسي ونسي لغتان كالوتر والوتر والفتح أحب إليّ. وقال أبو علي الفارسي الكسر أعلى اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر فهو اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض، ومنه فتح فمصدر نائب عن اسم كما يقال: رجل دنف ودنف والمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر يسد مسد الوصف، ويمكن أن يكونا لمعنى كالرطل والرطل والإشارة بقوله هذا إلى الحمل.وقيل: {قبل هذا} اليوم أو {قبل هذا} الأمر الذي جرى. وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية {منسياً} بكسر الميم اتباعاً لحركة السين كما قالوا منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء. وقيل: تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قربت من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام، أو لحزنها على الناس أو يأثم الناس بسببها. وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت و{قالت يا ليتني مت}. وقال وهب: أنساها كرب الولادة وما سمعت من الناس بشارة الملائكة بعيسى.وقرأ زر وعلقمة فخاطبها مكان {فناداها} وينبغي أن يكون تفسيراً لا قراءة لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، والمنادي الظاهر أنه عيسى أي فولدته فأنطقه الله وناداها أي حالة الوضع. وقيل: جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقاله الحسن وأقسم على ذلك. قيل: وكان يقبل الولد كالقابلة. وقرأ ابن عباس {فناداها} ملك {من تحتها}. وقرأ البراء بن عازب وابن عباس والحسن وزيد بن عليّ والضحاك وعمرو بن ميمون ونافع وحمزة والكسائي وحفص {من} حرف جر. وقرأ الابنان والأبوان وعاصم وزر ومجاهد والجحدري والحسن وابن عباس في رواية عنهما {من} بفتح الميم بمعنى الذي و{تحتها} ظرف منصوب صلة لمن، وهو عيسى أي ناداها المولود قاله أبيّ والحسن وابن جبير ومجاهد و{أن} حرف تفسير أي {لا تحزني} والسري في قول الجمهور الجدول.وقال الحسن وابن زيد وقتادة عظيماً من الرجال له شأن. وروي أن الحسن فسر الآية فقال: أجل لقد جعله الله {سرياً} كريماً فقال حميد بن عبد الرحمن: يا أبا سعيد إنما يعني بالسري الجدول، فقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك، ولكن غلبنا الأمراء.ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. وقالت فَرِقة: بل كانت النخلة مطعمة رطباً. وقال السدّي: كان الجذع مقطوعاً وأجرى تحته النهر لجنبه، والظاهر أن المكلم هو عيسى وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا ظهرت لها آيات تسكن إليها وحزنها لم يكن لفقد الطعام والشراب حتى تتسلى بالأكل والشرب، ولكن لما ظهر في ذلك من خرق العادة حتى يتبين لقومها أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها. قال ابن عباس: كان جذعاً نخراً فلما هزت إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف، ثم اخضر فصار بلحاً، ثم احمر فصار زهواً ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع من بين يديها لا يتسرح منه شيء. وإلى حرف بلا خلاف ويتعلق بقوله {وهُزِّي} وهذا جاء على خلاف ما تقرر في علم النحو من أن الفعل لا يتعدى إلى الضمير المتصل، وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا علم وهما لمدلول واحد لا يقال: ضربتك ولا زيد ضربه أي ضرب نفسه ولا ضربني إنما يؤتى في مثل هذه التراكيب بالنفس فتقول: ضربت نفسك وزيد ضرب نفسه وضربت نفسي والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا تقول: هززت إليك ولا زيد هز إليه ولا هززت إلى ولهذا زعموا في قول الشاعر: وفي قول الآخر: إنّ عن وعلى ليسا حرفين وإنما هما اسمان ظرفان، وهذا ليس ببعيد لأن عن وعلى قد ثبت كونهما اسمين في قوله: وبعض النحويين زعم أن على لا تكون حرفاً البتة، وأنها اسم في كل مواردها ونسب إلى سيبويه، ولا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسماً لإجماع النحاة على حرفيتها كما قلنا. ونظير قوله تعالى {وهزي إليك} قوله تعالى {واضمم إليك جناحك} وعلى تقرير تلك القاعدة ينبغي تأويل هذين، وتأويله على أن يكون قوله {إليك} ليس متعلقاً بهزي ولا باضمم، وإنما ذلك على سبيل البيان والتقدير أعني إليك فهو متعلق بمحذوف كما قالوا في قوله {إني لكما لمن الناصحين} وما أشبهه على بعض التأويلات. والباء في {بجذع} زائدة للتأكيد كقوله {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال أبو عليّ كما يقال: ألقى بيده أي ألقى يده. وكقوله: وأنشد الطبري: وقال الزمخشري أو على معنى أفعلي الهز به. كقوله: قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة قاله محمد بن كعب. وقيل: ما للنفساء خير من الرطب. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب. وقرأ الجمهور {تساقط} بفتح التاء والسين وشدها بعد ألف وفتح القاف. وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب ومسروق وحمزة كذلك إلاّ أنهم خففوا السين. وقرأ حفص {تساقط} مضارع ساقطت. وقرأ أبو السمال تتساقط بتاءين. وقرأ البراء بن عازب والأعمش في رواية يساقط بالياء من تحت مضارع أساقط. وقرأ أبو حيوة ومسروق. تسقط بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف. وعن أبي حيوة كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت، وعنه تسقط بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه أنه قرأ رطب جني بالرفع على الفاعلية، وأما النصب فإن قرأ بفعل متعد نصبه على المفعول أو بفعل لازم فنصبه على التمييز، ومن قرأ بالياء من تحت فالفعل مسند إلى الجذع، ومن قرأ بالتاء فمسند إلى النخلة، ويجوز أن يكون مسنداً إلى الجذع على حدّ {يلتقطه بعض السيارة} وفي قراءة من قرأ يلتقطه بالتاء من فوق.وأجاز المبرد في قوله {رطباً} أن يكون منصوباً بقوله {وهزي} أي {وهزي إليك بجذع النخلة} رطباً تساقط عليك، فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال فيكون قد حذف معمول {تساقط} فمن قرأه بالياء من تحت فظاهر، ومن قرأ بالتاء من فوق فإن كان الفعل متعدياً جاز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان لازماً فلا لاختلاف متعلق هزي إذ ذاك والفعل اللازم.وقرأ طلحة بن سليمان {جنياً} بكسر الجيم إتباعاً لحركة النون والرزق فإن كان مفروغاً منه فقد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه، ولذلك أمرت مريم بهز الجذع وعلى هذا جاءت الشريعة وليس ذلك بمناف للتوكل.وعن ابن زيد قال عيسى لها لا تحزني، فقالت: كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس؟ {يا ليتني مت قبل هذا} الآية فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام {فكلي واشربي وقرّي عيناً}. قال الزمخشري: أي جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله {فكلي واشربي وقرّي عيناً} أي وطيبي نفساً ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك انتهى.ولما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية والمجاورة قوله {تساقط عليك رطباً جنياً} ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال: {وقرّي عيناً} أي لا تحزني، ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحداً. وقرئ {وقري} بكسر القاف وهي لغة نجدية وتقدم ذكرها.وقرأ أبو عمرو في ما روى عنه ابن رومي ترئن بالإبدال من الياء همزة وروى عنه لترؤن بالهمز أيضاً بدل الواو. قال ابن خالويه: وهو عند أكثر النحويين لحن. وقال الزمخشري: وهذا من لغة من يقول لتأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال انتهى. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {ترين} بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جنيّ: وهي شاذة يعني لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون. كما قال الأفوه الأودي: والآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول الظاهر أنه ولدها. وقيل جبريل على الخلاف الذي سبق، والظاهر أنه أبيح لها أن تقول ما أُمِرَت بقوله وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى {فقولي} أي بالإشارة لا بالكلام وإلاّ فكان التناقض ينافي قولها انتهى. ولا تناقض لأن المعنى {فلن أكلم اليوم إنسياً} بعد {قولي} هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليه المعنى، أي {فإما ترين من البشر أحداً} وسألك أو حاورك الكلام {فقولي}.وقرأ زيد بن عليّ صياماً وفسر {صوماً} بالإمساك عن الكلام. وفي مصحف عبد الله صمتاً. وعن أنس بن مالك مثله. وقال السدّي وابن زيد: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام انتهى. والصمت منهي عنه ولا يصح نذره. وفي الحديث: «مره فليتكلم» وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق وأمرت بنذر الصوم لأن عيسى بما يظهر الله عليه يكفيها أمر الاحتجاج ومجادلة السفهاء. وقوله {إنسياً} لأنها كانت تكلم الملائكة دون الإنس.
|